أخر الأخبار

الطيب بوتبقالت: هذه أسس مشروعية الحكم الملكي بالمغرب - 1 -

الطيب بوتبقالت*

تلعب الملكية بكل تأكيد دور القلب النابض بالنسبة لنظام الحكم السياسي في المغرب بمفهومه الواسع والشمولي، وهذا معناه أن السلطان / الملك منذ عهد الأدارسة إلى الآن ظل في عيون ووجدان المغاربة الرمز الأسمى لسيادة البلاد والضامن الرئيسي لاستتباب الأمن والاستقرار، والراعي الأول لمصالح المغرب العليا وكرامة مواطنيه. لقد وافق الشعب المغربي بأغلبية ساحقة على دستور 2011 على خلفية "الربيع العربي" ، ولم يكن ذلك مرده إلى كثافة الحملة الاستفتائية أو إلى أساليب الإقناع الحديثة كما يعتقد البعض، وإنما يرجع ذلك في المقام الأول إلى المقومات الأساسية لهوية النظام الملكي الذي ظل الشعب المغربي متشبثا به عبر الأحقاب و الأجيال.

ومن أجل المساهمة في تنوير الرأي العام نقدم في ما يلي عرضا تاريخيا تحليليا مبسطا لتطور مشروعية الحكم الملكي بالمغرب.

مرحلة تأسيس الدولة المغربية

لم يكن إدريس الأكبر غازيا ولا فاتحا للمغرب، وإنما وصله لاجئا وفارا من ساحة الموت. وعندما وصل إلى طنجة لم يكن محاطا بجيش يحمل رايته ويهتف باسمه، كما أنه لم يكن في انتظار هبوب القبائل المغربية لتشد أزره وتناصره أو تساعده على قيام حكمه ونشر سلطانه. وكل ما في الأمر هو أنه كان يحمل رسالة إيمان وسلام، وهذا العنصر بالضبط هو الذي جعل بعض القبائل المغربية تلتف حوله وتعمل على تنصيب ابنه خلفا له بعد اغتياله على يد مشارقة، بمعنى أن الدافع الأساسي في احتضان تلك القبائل للأسرة الإدريسية كان هو اقتناعها بفحوى وسماحة الدين الإسلامي، وهو بالتالي تعبير صريح عن اعتناقها الطوعي للديانة الإسلامية.

وتفاديا للسقوط في سخافة التبسيط أو الوقوع في إساءة الفهم بمجريات الأمور في سياقها التاريخي وطبيعتها الاجتماعية، نشير باقتضاب إلى أن ساكنة الشمال الإفريقي على العموم لم تستوعب الرسالة الإسلامية إلا بصفة تدريجية، بحيث استغرق الفتح الإسلامي للأقطار المغاربية حوالي سبعين سنة، بينما لم يستغرق أكثر من عشر سنوات في فتح العراق وفارس والشام ومصر. بدون شك أنه كان لعامل المسافة الجغرافية وطبيعة التضاريس المحلية دورا حاسما في تأخير وعرقلة الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا. ونقول "الفتح الإسلامي" وليس "الغزو الإسلامي" لأن الفاتحين المسلمين لم يكونوا أصحاب مشروع استعماري استغلالي كما كان الشأن بالنسبة للرومان مثلا، وإنما جاؤوا بدافع روحي، حاملين لرسالة سماوية يؤمنون مخلصين بصحة تعاليمها وتفوق فلسفة هدايتها على كل الأديان المعروفة آنذاك.

وأما مقاومة الأمازيغ لهم، فلم تكن موجهة ضد الإسلام كما يحلو للبعض أن يصفها، لأن الأمازيغ في الواقع كانوا يجهلون كل شيء عن الإسلام ابتداء من اللغة العربية التي جاءت حاملة لرسالته. وعليه فإنه كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن يتصدوا لكل تدخل أجنبي حفاظا على استقلالهم وصونا لكرامتهم مهما كلفهم ذلك من تضحيات جسام، سيما إذا علمنا أن صراعهم المرير والمستميت ضد الرومان و الوندال والبيزنطيين أكسبهم خبرة قتالية عالية جعلتهم يمتلكون الثقة بالنفس ويتأهبون على الدوام لصد أي تدخل أجنبي مهما كانت أهدافه ومراميه.

وعلى أي حال، فإن اكتمال فتح المغرب من طنجة إلى سوس ودرعة كان على يد موسى بن نصير وابنه مروان. وقد توالى انضمام الأمازيغ إلى جيش الفتح بشكل ملحوظ ومتزايد مما يعني دخولهم إلى الإسلام وتخليهم عن معتقداتهم السابقة، وقد حدث ذلك مع نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلاديين. وكل ما قيل عن بطش موسى بن نصير في صفوف القبائل الأمازيغية لا يخلو من تشويه متعمد ومبالغات تلفيقية. لقد كان يحرص في المقام الأول على نهج سياسة تواصل ومصالحة تسعى لبناء الثقة والتعريف بحقيقة الرسالة المحمدية، وتجلى ذلك بوضوح كامل عندما ترك طارق بن زياد الأمازيغي واليا على طنجة وإلى جانبه فريق من الفقهاء العرب الذين أسندت إليهم مهمة تعليم القرآن الكريم للسكان الأصليين.

ولم تمض بضع سنوات على ذلك حتى تشكلت نواة جيش أمازيغي مغربي إسلامي تحت قيادة طارق بن زياد وطريفة بن مالك، وقد بلغت دفعته الأولى حوالي 7000مقاتل لم يكن من بينهم سوى 300 مقاتل من أصل عربي. وهذا الجيش هو الذي انطلق انطلاقة السهم في اتجاه أوروبا ففتح الأندلس سنة 711، واخترق جبال البرانس سنة 718 إلى أن وصل إلى قلب فرنسا (بواتيبي) سنة 732. وهذه الأعوام القليلة بالمقاييس التاريخية كانت كافية لتجعل من المغرب فاعلا في التاريخ الحضاري الإنساني بعد ما كان لمدة قرون شبه نكرة لا غير! ويرجع فضل هذا الإنجاز الجبار بكل تأكيد إلى راية الإسلام التي أعطت نفسا جديدا للروح المغربية، فأفرزت عبقريتها وطبعت هويتها.

ومما لا شك فيه أن هذا التحول النوعي والظروف التاريخية التي ميزت تطوراته المختلفة كانت بمثابة الأرضية الخصبة التي ساعدت على ظهور نواة حكم مركزي تبلور انطلاقا من نهاية الثمانينيات من القرن الثامن الميلادي على يد مولاي إدريس الأكبر ومن بايعه من القبائل المغربية. وهكذا انتصبت الدولة الإدريسية رغم تواضع هيكلتها السياسية وهشاشة بنيتها الإدارية لتتبوأ مكانة المؤسس الأول لكيان النظام المغربي الذي بدأ نجمه يسطع في الأفق المحلي والإقليمي والدولي. وكانت القواعد والأسس التي ارتكز عليها ذلك الكيان عبارة عن دعامات روحية ومعنوية قوامها مبادئ وتعاليم العقيدة الإسلامية. إلا أنه سرعان ما تجسدت تلك القناعات الروحية على أرض الواقع المادي، فأسس الأدارسة مدينة فاس سنة 808م لتكون عاصمة لملكهم، وقطعوا بذلك خطوة حاسمة في تصور وتدبير الشأن العام المغربي.

ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، وبغض النظر عن وصول أو سقوط الأسر الحاكمة التي توالت على مقاليد السلطة العليا للقرار السياسي بالمغرب، فإن ما يسترعي الانتباه هو كون المؤسسة المخزنية المعنية بإدارة شؤون البلاد لم تكن تستمد مشروعيتها من ارتباطها المباشر أو غير المباشر بحكومة مركزية فحسب، بل أضحت تجسيدا ملموسا وشاهدا حيا على استمرارية ذلك النسق التنظيمي بقوته وضعفه حسب مراحل تطوره الزماني والمكاني. وهذا مما أدى إلى حصيلة شبه مستقرة تتجلى في كون نظام الحكم المغربي بمفهومه الاستراتيجي وسياسة تدبيره الإداري بقي وفيا لروح وفلسفة مؤسسة الدولة التي وضع الأدارسة حجر زاويتها. وبإلقائنا نظرة فاحصة على هذا المسار التاريخي فإننا نجد أن كل الأسر التي حكمت المغرب منذ العهد الإدريسي إلى يومنا هذا لم تبتعد قيد أنملة عن جوهر ذلك النهج المؤسس للكيان المغربي، وهكذا أصبحت هذه الخاصية معيارا مرجعيا ومقياسا لمشروعية نظام الحكم روحيا و وجوديا.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي 'tanjaoui.ma'

تعليقات الزوّار (0)



أضف تعليقك



من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

أخر المستجدات

تابعنا على فيسبوك

النشرة البريدية

توصل بجديدنا عبر البريد الإلكتروني

@