أخر الأخبار

نهضة طنجة .. تنافر إيقاع الحجر والبشر

محمد بنعزيز

في رواق معهد اسباني بمدينة طنجة معرض صور من تاريخ المدينة، هناك أفيشات افلام قديمة تحمل اسم المدينة وصورة زيارة الإمبراطور الألماني غيوم الثاني سنة 1905 على أمل أن تكون له حصة في احتلال المغرب... طنجة محظوظة دخلها الأجانب مبكرا وصنعوا لها تاريخا بصريا صمد للزمن. يتبدد التأريخ الشفوي فيتحول أو ينقرض بينما يحفظ الأرشيف المصور التاريخ بأمانة... وحيث يعبق التاريخ يأتي السواح، وحيث يأتي السياح يتجمع التجار فتصير الفضاءات مربحة ومبهجة وموحية للمغاربة بنمط حياة بلمسة أوروبية في بلدهم... وهكذا يصير الحاضر أكثر قوة وجمالا من الماضي.

في حاضر طنجة يمكن للسائح ان يُلمع حذاءه ويمشي به يوميا طيلة أسبوع دون أن يعلوه الغبار... هذا في قلب المدينة حيث يلتقط الأنف الشمّام رائحة حشيش من النوع الجيد أما في ضواحي طنجة فهناك رافعات مثل اذرع هرقل وآلاف الجرافات البرتقالية والصفراء الفاقعة تدك الارض، تبني قناطر وجسورا تمتد مآت الأمتار... مرحبا بكم في جنوب طنجة.

في شرق المدينة يتغير المشهد، هناك سفن وميناء وأفق مفتوح على التجارة العالمية. في ملتقى بحار العالم بدأ العمل في ميناء طنجة المتوسط واحد في 2007 وهو يصنف في المرتبة 46 عالميا ويتوقع أن يدخل ضمن العشرين قريبا... ترسو به سفن يزيد طولها عن أربع مائة متر ويستقبل أكثر من ثلاثة ملايين حاوية سنويا. ثم صار هذا غير كافي فتم إنشاء ميناء طنجة المتوسط إثنين وشُرع في تشغيله في 2015 ويتسع لثمانية ملايين ونصف حاوية لربط المحيط الاطلسي والبحر المتوسط ومنه تأتي السفن القادمة من الخليج والبحر الأحمر محملة بثمانين بالمائة من نفط العرب وإيران.

يبعد الميناء عن طنجة بنصف ساعة على الطريق السيار ويبعد ثلاث ساعات ونصف عن الدار البيضاء والأهم أن الميناء يبعد أربعة عشر كلمترا عن أوروبا ويمكّن للسفن الوصول إلى نيويورك في عشرة أيام وللصين في عشرين يوميا. حاليا يستقبل الميناء ملايين المهاجرين المغاربة الذين يضخون في الاقتصاد الوطني سبعة ملايير دولار سنويا. في الميناء يتم بسرعة شديدة تحميل أو تفريغ النفط والقمح والسيارات مباشرة في عربات القطارات لتنقلها لدخل المغرب والعكس. يصل الركاب بالقطار ويركبون السفن نحو أوروبا... أحيانا يعْبر أكثر من ثلاثين الف شخص ليلا ونهارا وبسرعة. السرعة وتجنب الاختناق هي كلمة السر... وهذه حسابات لوجيستيكية وإستراتيجية يقدرها التجار.

للميناء شراكات مع موانئ في شرق آسيا حيث مستقبل العالم. والميناء محاط بمناطق صناعية عملاقة وبمنطقة تجارية حرة ويوفر آلاف المكاتب للشركات التي تود الاستثمار.. لذلك تفتح الشركات الصينية فروعا لها لتصدر بسهولة للسوق الأوروبية.

للتأكيد بالأرقام على ان هذه دولة تصنيع لا دولة مُناولة sous traitance بلغت صادرات قطع غيار الطائرات ملياري دولار بينما يشغل معمل رونو نيسان طنجة أكثر من ستة آلاف شخص وتصل معاملاته لخمسة ملايير دولار وأنتج 400000سيارة في ثلاث سنوات... وينتج يوميا 800 سيارة في 2015...

طنجة مدينة تنهض وهي بوابة المغرب على العالم. وقد صارت وفق دستور 2011 ضمن تقسيم جهوي له بعد جغرافي اكثر وبعد قبلي أقل بهدف تجميع الشمال في جهة واحدة. ففي كل التقسيمات الجهوية السابقة لشمال المغرب جرى فصل الريف العنيد والتقليدي عن طنجة المفتوحة. منطقة الريف حيث قاد عبد الكربيم الخطابي ثورة مجهضة. ولهذه الوحدة دلالة سياسية تخلق تكامل المناطق بدل تنافرها. ستجر المناطق المتفتحة المناطق المحافظة خلفها بسرعة قطار. في 2018 سينطلق قطار فائق السرعة يربط طنجة بالدار البيضاء مرورا بالرباط العاصمة وستسود سرعة انتقال السلع والبشر بسرعة ثلاث مائة وعشرين كلمتر في الساعة. ورش طنجة الكبرى هو علاج لانحباس الدار البيضاء منذ عام 2000، وبفضل القطار السريع سيستغرق التنقل بين طنجة والدار البيضاء ساعتين. هكذا ستصير طنجة في الدار البيضاء. ينتظر أن ينقل القطار السريع ستة ملايين شخصا سنويا. هكذا يجري تحديث وتصنيع المدن مما يعزز وضع سكانها. حاليا يمكن لفتاة عزباء ان تهاجر لطنجة وتعمل وتسكن لوحدها دون مشاكل رغم سيادة النظرة الذكورية الرافضة. وقد تعزز وضع النساء بقرار ملكي لا مجتمعي. التطور الذي حصل في مدن مغربية كثيرة في أربعين سنة يتحقق في طنجة خلال عشر سنوات. هذا زخم عمراني لقطب اقتصادي قادر على رفع التحدي مع استثمارات كبيرة وتركيز شديد على البنيات التحتية...

تتمدد المدينة في كل الاتجاهات، تتمدد في البحر بفضل الميناء العملاق. تجري هندسة المجال لمنع اختناق المدينة. حسب شخص مطلع فإن والي المدينة يعمل في الميدان وليس في مكتبه. وحاليا يقضى الملك وقتا طويلا في طنجة، يراقب بنفسه لتجاوز احتباسات البيروقراطية ولتسريع الإنجاز. كان الحسن الثاني يعشق المدن الداخلية مثل مراكش وفاس ويقضي فيهما وقتا كثيرا. بينما يعشق محمد السادس المدن الشاطئية.

الناس في طنجة مذهولين مما يجري حولهم، يقولون "طنجة في عهد محمد السادس هي أرض تنبت عمارات". في المواقف هناك ملاحظ يحن للماضي، للمدينة الصغيرة والتي فيها غرباء قلة وهم غربيون في الغالب. ومراقب مبتهج بالحاضر وبالتوسع الكاسح. حاليا تستبق الدولة الطلب على السكن بسرعة كبيرة. تعطى التراخيص بسرعة وتنهض أحياء كاملة دفعة واحدة فيها مدارس وأبناك ومراكز شرطة... يرتفع عدد السكان بسبب الهجرة من المدن الداخلية الصغيرة ومن البوادي وليس بسبب الولادات... وهناك فروق في الفضاء العمراني بطنجة. كلما ابتعدنا عن البحر واقتربنا من الجبل صارت المباني اصغر حجما وصارت الأحياء اكثر اكتظاظا بالعمارات والبشر... عمارات جديدة بسكان قرويين خارج مجتمع المعرفة. سكان كثيرين مع قلة اليد العاملة المؤهلة. في كل موقف سيارات وبين مجموعة دكاكين مسجد عشوائي صغير... مدارس فيها اكتظاظ شديد يزيد عن أربعين تلميذا في الفصل الدراسي...

وهذا المشهد يطرح اسئلة: إلى أي حد يستطيع المجال الحضري استيعاب الهجرة؟ كيف يمكن علاج تنافر إيقاع تقدم الحجر والبشر؟

هناك غياب توازن بين إيقاع السياسة العمرانية والاقتصادية من جهة والسياسة والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية. واضح أن تحديث الحجر أسرع من تحديث البشر.

طنجة هي ثاني قطب اقتصادي بعد الدار البيضاء ويغطي مشروع طنجة الكبرى خمس مجالات حضرية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية... لكن يظهر ان المجالين الاولين يسيران بسرعة قصوى بينما المجال الاجتماعي يسير بالناقة لا بالقطار السريع.

فاكبر عدد من مقاتلي داعش المغاربة هاجروا من جهة طنجة. هنا يبنى مسرح وأحد عشر مسجدا. طنجة مدينة فاز فيها حزب العدالة والتنمية وحصل على 49 مقعد من 85. أخذ الحزب عمادة طنجة وفي كل دائرة بعدد أصوات هي ضعف ما حصل عليه الحزب الذي احتل المرة الثانية. وحين جاء عمدة المدينة الإسلامي – وهو أشبه بفقيه لا بتكنوقراطي - لافتتاح مهرجان طنجة الرابع للمسرح في 2-10-2015 قال إنه عمل بالتدريس وسبق له أن أشرف على نادي مسرحي. وهو بذلك يخبر الحضور بأنه لا يحرّم الفن. والحقيقة الواضحة هي أن هذه مدينة بدون تكنوقراط وتعيش ارتدادا سلفيا يمثل أفقا خطرا على مشروع تحديث الحجر. ولمن يشكك فقريبا ستستضيف جماعة التوحيد والاصلاح الذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية الشيخ العريفي لنشر سمومه... محمد العريفي هو الأول عربيا على تويتر في عدد الأتباع بحمد الله لأن تكنولوجيا الغرب شهرته فكيف سيردعه مجتمع مدني حداثي مغربي صغير يفقد تأثيره امام الدعاة وأمام تأسلم النخب العليا في المجتمع؟

النخب المدينية هي صمام أمان الدولة ولكن يتضح ان النخب المفترض أنها طليعيّة تحمل فكرا دينيا يضمن أسلمة المجتمع على مراحل من تحت وبشكل تصاعدي... وهذا مخيف.

ما الأفق السياسي للبلاد في ظل هذه المعطيات؟

في سابقة مشابهة للتحديث الملكي من فوق يحكي المؤرخ إريك هابسباوم في كتابه الضخم "عصر التطرفات" أن التحديث الذي أطلقه شاه إيران بتعزيز المدن ودعم حقوق النساء في مجمع اسلامي بمساندة الإمبراطورة فرح قد انقلب عليه.

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي 'tanjaoui.ma'

تعليقات الزوّار (0)



أضف تعليقك



من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

أخر المستجدات

تابعنا على فيسبوك

النشرة البريدية

توصل بجديدنا عبر البريد الإلكتروني

@