الطيب بوتبقالت*
المملكة المغربية وليدة البيعة الشرعية
يستنتج من المعطيات الوصفية والتحليلية التي عرضناها مختصرة أعلاه أن جذور نظام الحكم بالمغرب تستمد قوتها وحيويتها من مرجعية إسلامية محضة، ولا يجادل في ذلك إلا عنيد متصلب أو سفسطائي مناور. بقي علينا أن نشير هنا إلى مغازي ومرامي العلاقة التي تربط الملك بالشعب لنجدها بدون عناء كاملة شاملة داخل إطار البيعة. وهو نفس الإطار الذي تبلور فيه نظام الخلافة في الإسلام. والبيعة لغة واصطلاحا هي الصفقة على إيجاب البيع، وهي كذلك العهد على الطاعة. وفي الحديث: ألا تبايعوني على الإسلام؟ وفي هذا الصدد يقول ابن منظور: إنها عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما (يعنى من الطرفين) باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. والبيعة في الإسلام ليست نتيجة اجتهاد سياسي أفرزه نظام الخلافة، وإنما هي أصلا نابعة من بيعة العقبة الأولى والثانية ومن بيعة الرضوان كما نص عليها القرآن الكريم في سورة الفتح (الآية 10 والآية 18).
وقد سجل التاريخ الإسلامي أنه لما بايع الناس الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه خاطبهم قائلا:"إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني". وهو نفس النهج الذي صار عليه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يرجع له الفضل في تقعيد أسس الدولة الإسلامية وإعلان ميثاق الحريات معتبرا إياه حقا طبيعيا، ومازالت مقولته في هذا الشأن من مرتكزات حقوق الإنسان:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". و ما على الدارسين إلا أن يقارنوا هذه المقولة الخالدة بمقتضيات المادة الأولى التي تصدرت الميثاق الدولي لحقوق الإنسان سنة 1948...
وإلى حد بعيد نجد مشروعية الملكية بالمغرب كالماء الزلال الذي ينساب من هذا المنبع الإسلامي الطاهر. فمنذ مبايعة مولاي إدريس بن عبد الله الكامل إلى مبايعة جلالة الملك محمد السادس لا يوجد هناك ما يعكر صفوة ذلك الترابط الوثيق الذي يجمع ما بين الملك والشعب. لقد ظل عقد البيعة في المغرب مخلصا للنهج الإسلامي شكلا مضمونا ، وهو من حيث الالتزامات وفلسفة الممارسة السياسية لا يتنافى بتاتا مع المبادئ التي نصت عليها نظرية العقد الاجتماعي كما جاءت عند كل من جون لوك (1632 –1704) و جون جاك روسو(1712-1778).
نعم هناك تفاوت وتباين في كيفية القيام بالمهام وفي تقييم حصيلة النتائج المترتبة عن الالتزامات المتبادلة ، وذلك في نظرنا راجع إلى عاملين إثنين: أولهما يكمن في اختلاف درجات الكفاءة والقدرات الذاتية لكل سلطان أو ملك على حدة، وثانيهما يكمن في المتغيرات والظروف الموضوعية التي تميز كل مرحلة من مراحل ممارسة الحكم سواء على صعيد السياسة الداخلية أو على مستوى العلاقات الخارجية المغربية. لهذا فإن الحالات الأمنية والاقتصادية والثقافية للبلاد، بالإضافة إلى وضع نظامها المخزني وتطوره، كلها في آخر المطاف عوامل تنعكس سلبا أو إيجابا على آليات و مردودية السلطة القائمة، وبالتالي تسري تداعياتها لتعم كل أطراف النسيج الاجتماعي.
وبعبارة أشمل فإنه ما دام ازدهار البلاد وتقدمها يتجلى في مختلف أحوالها فإن تقهقرها وتدهورها هو كذلك مرآة عاكسة لمجمل بنياتها بدون استثناء، وكثيرا ما لعبت البيعة دور برج المراقبة أو صفارة إنذار، وعادة ما يكون ذلك ناتجا عن الإخلال بأحد بنودها: حدث هذا بالضبط للسلطان عبد الحق المريني(1420-1465)، آخر سلاطين الدولة المرينية، حين أطلق العنان لأحد مساعديه الأقربين فعاث في الدنيا فسادا. و حدث هذا للسلطان السعدي محمد الشيخ المأمون(1554--1557) عقب تنازله عن ميناء العرائش لفائدة إسبانيا. كما حدث ذالك في بداية القرن العشرين للسلطان مولاي عبد العزيز(1894-1908) لما عجز عن تدبير سياسة البلاد في مواجهة العدوان الخارجي.
إن ما أشرنا إليه هو عبارة عن أمثلة وحجج مأخوذة من صميم التاريخ السياسي المغربي، و هي أمثلة كافية لتعطي دليلا قاطعا عن مدى نجاعة وجدية تعاقد البيعات بخصوصياتها المغربية. والحالات المذكورة كلها تهم بعضا من واجبات الملك وما لحقها في فترات تاريخية معينة من إخلال جراء عدم قدرته على الوفاء والامتثال لشروط البيعة، وطبعا يجري نفس الشيء على الرعية في حالة إخلالها لمقتضيات تعاقد البيعة و امتناعها عن أداء واجباتها. و على سبيل المثال، كثيرا ما يحدث في الأزمات أن تتنصل فئات اجتماعية من التزاماتها كما وقع خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين تهافت العديد من المغاربة على طلب الحماية القنصلية والارتماء في أحضان قوات أجنبية معادية للبلاد، وهو ما يعد انتكاثا لعهد ميثاق البيعة وخيانة وطنية عظمى.
وعلى العموم فإنه يبدو من السهولة بمكان في حالات التدهور والانكسار أن تتأجج مشاعر السخط والتذمر وتتعالى أصوات التنديد والاحتجاجات لتنهال كالضربات المتتالية على رأس هرم السلطة، لكن ما هو أصعب من ذلك بكثير هو اعتراف الأطراف المعنية بالمسؤوليات المشتركة والعمل يدا في يد على تحديد مواطن الخلل الحقيقية. صحيح أن "لكل شعب الحكومة التي يستحقها" كما قال نابليون (1769-1821)، وفي كل الحالات: "كما تكونوا يولى عليكم"... إن هذا البعد النفساني قليلا ما يتم الاهتمام به في هذا المجال، بل إن الكثير من التحليلات العقلانية تستخف به عن جهل، فسبحان الله الذي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!...