طنجاوي*
فوز دونالد ترامب المرشح الجمهوري بالانتخابات الرئاسية الأميركية ووصوله لسدة حكم "أقوى بلد في العالم"، وهو الدخيل على الطبقة السياسية الأميركية يجعلنا نتساءل: كيف فعلها؟
يحاول البعض الوصول للإجابة عن طريق تحليل الوضع والواقع السياسي في الداخل الأميركي، وقد تسلط هذه المحاولات الضوءَ على بعض الحقيقة، لكنها لا تكشف كلَّ شيء، وقد تبدو الإجابات التي تأتي من هذا الطريق غير مقنعة تماماً، لذا ربما علينا أن نتجاوز هذا التحليل لنصل لنقطة أبعد، تتمثل في الخلفية الفكرية والمهنية والأيديولوجية التي بنى عليها ترامب خطابه، الذي أثار الناخب الأميركي وجذبه للتصويت له، على الرغم من توقع الكثيرين لهذا الخطاب بالفشل، حتى من داخل الحزب الجمهوري نفسه.
تجاذبات الثروة والشهرة
وُلد ترامب في ولاية نيويورك في العام 1946، وتخرج في كلية الاقتصاد بجامعة بنسلفانيا، ثم ورث عن أبيه شركته العقارية المتوسطة التي أعاد تسميتها وهيكلتها، ونجح في الوصول بها إلى مصافِّ الشركات العقارية الكبرى في الولايات المتحدة، كما نجح في تنمية ثروته الشخصية حتى أصبح ضمن أغنى 300 رجل في العالم.
لم يكتفِ ترامب بالثروة، فقد كان دائماً محباً للظهور والشهرة، واقتحم بقوة مجال الترفيه بمسابقات ملكات جمال الولايات المتحدة التي نظمها منذ 1996، وبرامج تلفزيون الواقع التي كان نجماً دائمَ الظهور فيها، هذا غير الظهور الشرفي في بعض لقطات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.
"أنت مطرود" هكذا بكل حزم وصلف ينطق ترامب العبارة الشهيرة في وجه المتسابق الذي لا ينجح في الوصول إلى المرحلة التالية، ليُعلن حسم وإنهاء مرحلة الذروة في كل حلقة من حلقات عرض تلفزيون الواقع الشهير الذي اعتاد تقديمه، وهي العبارة التي ردَّ بها عندما سئل عمَّا إذا كان لديه شيء يقوله للرئيس أوباما بعد نجاحه في الوصول للرئاسة. "أنت مطرود" هكذا يضع ترامب وعلى طريقته التي اعتادها الجمهور، نهاية تلفزيونية مثيرة لسنوات أوباما في البيت الأبيض.
يجيد ترامب إذاً لغة الترفيه ببراعة، ويعرف كيف يجذب اهتمام المشاهدين، وكيف يثير غرائزهم البدائية وانفعالاتهم.. كيف يربطهم أمام شاشات التلفزيون مشدودين أو متوترين، فهذه هي طبيعة برامج تلفزيون الواقع التي أغرم بها الأميركيون كثيراً.
لم يكتف ترامب بالعروض التلفزيونية، فقد امتد ولعه بعالم الترفيه ليشمل عالم الرياضة أيضاً. وكانت لعبة البيسبول مدخله الأول لهذا العالم حين اشترى نادي نيوجيرسي الرياضي، ثم عمل على استضافة مباريات الملاكمة في فنادقه العديدة.
واشتهر بعلاقة الصداقة التي تربطه بالملاكم الشهير مايك تايسون، وأخيراً اقتحم عالم المصارعة عبر صداقته الشخصية لـماكماهون مدير شركة wwe، وأتيح له الظهور في العديد من عروض هذا العام التي استضاف بعض أحداثها أيضاً في فنادقه.
لم يظهر أن لترامب آراء سياسية تتفق مع أحد قطبي السياسة الأميركية، فهو دائم التغيير لموقفه وحزبه السياسي، ودائم الإبداء لرغبته في الترشح للرئاسة رغم عدم إقدامه على هذه الخطوة إلا مؤخراً.
ورغم قلة خبرته السياسية، وعدم اتساق مواقفه، وربما تعارضها في أحيان كثيرة، إلا أن ترامب استخدم كل فنون الترفيه والتشويق، وحتى التخويف، التي اكتسبها من خبرته الطويلة في عالم الإعلام والترفيه والتسلية ليجذب إليه اهتمام جمهور الناخبين بطريقة مثيرة، رغم أن الطبقة السياسية والإعلامية بأغلبيتها وقفت ضده في هذه الانتخابات وعارضته، إلا أنه نجح في مفاجأة الجميع والفوز بالمقعد الذي طالما نازعته نفسه إليه.
لنجعل أميركا عظيمة مجدداً
لم يكن ترامب الرئيس المنتخب الوحيد الذي وصل إلى البيت الأبيض من خارج الطبقة السياسية، سبقه إلى المكتب مثله الأعلى رونالد ريغان، الذي كان شعار حملته هو نفس شعار حملة ترامب "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً".
ومثل ترامب نشأ ريغان أيضاً في عالم الترفيه، فقد كان ممثلاً هوليوودياً مثل الشخصية الأميركية بحبها لـ"رعاة البقر" وصراعها المخابراتي ضد الشيوعي الشرير، ربما هي الشخصية التي شكلت فيما بعد سياسات ريغان في صراعه ضد الاتحاد السوفييتي، الذي أكسبه صفة البطل القومي.
وعلى العكس من ترامب، لم يكن ريغان عديم الخبرة السياسية تماماً، فقد تقلد منصب حاكم كاليفورنيا قبل ترشحه للرئاسة، إلا أن الصفات التي اكتسبها في عالم الترفيه صبغت حملته الانتخابية، وعبَّدت له الطريق إلى المكتب البيضاوي.
فقد كانت له كاريزما اكتسبها من العمل بالسينما، وكان قوي الحضور أمام الكاميرا، حاضر النكتة، وقوياً في منافسة خصومه من المرشحين الآخرين.
وعلى الرغم من التشابه بين رونالد ريغان وترامب في التوجه الحزبي والخلفية غير السياسية، إلا أنهما سارا في اتجاهات مختلفة في برامجهما الانتخابية، فريغان كان عدواً للروس صديقاً للمهاجرين، أما ترامب فعدو للمهاجرين صديق للروس، وحليف ضعيف لأوروبا التي ستشعر بالوحدة والضعف أمام التهديد الروسي لو صدق ترامب في تنفيذ وعوده.
الخطوط الفاصلة بين الترفيه والسياسة
منذ دخول المناظرات التلفزيونية على خط الدعاية الانتخابية أصبحت الخطوط الفاصلة بين السياسة والبرامج الترفيهية تتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت الانتخابات عرضاً ترفيهياًمدراً للكثير من الأموال في حد ذاته، إلى الحد الذي يجعل اتحادات الرياضات والرعاة الرسميين ومالكي الحقوق الحصرية لبث المباريات يشتكون من تدني مستوى أرباحهم في مواسم الانتخابات.
لم تصبح الطبيعة الترفيهية للانتخابات ظاهرة وصفية فقط، بل أصبحت من صميم اهتمام القائمين على الحملات الانتخابية أنفسهم، فلم يترددوا في الاستعانة بشركات العلاقات العامة والمستشارين الإعلاميين لتجميل صورة مرشحهم والتغطية على الثغرات الإعلامية والفضائحية التي قد تتسبب في الهزيمة.
هذه العلاقة المتداخلة تجعل الكثيرين يعيدون التساؤل عن مدى نجاعة وفاعلية الآليات الديمقراطية في العصر الراهن، إذ لم تعد البرامج والسياسات هي الحاكم فقط، وإنما الصورة واللقطة والقصة أيضًا. وأصبح ساكن البيت الأبيض يصنع على شاشات التلفاز وبرامج الترفيه أيضاً، وليس في أروقة صنع القرار ومجالس المناقشة العمومية فقط.
*عن "الهافنتغتون بوسط"