طنجاوي ـ يوسف الحايك
لم يدر في خَلَد خالد اورام وهو يحفر، قبل خمس أو ست سنوات، ثقبا مائيا على عمق 60 مترا على مقربة من منزله في دوار إغران النائي بجماعة تموروت، ضواحي إقليم شفشاون، في محاولة منه لسد حاجيات أسرته من المياه، أن الأمر سيتحول إلى مأساة هزت العالم، وفيه تنتهي رحلة حياة طفله ريان، ذو الخمس سنوات، ليصبح أيقونة كونية تُفِيضُ عيونَ الانسانية دَمْعاً وتَحْرِق أفئدتها حزنا وكمدا على وفاته.
ريان.. المشهد الأخير
وفي تفاصيل القصة، يقول عبد المجيد أحارز، الفاعل الجمعوي ـ الذي كان أول من أثار القصة عبر صفحته في الفايس بوك ـ في حديث لـ"طنجاوي" إن أب ريان وبعد أن باءت محاولته بالفشل،
قام بتغطية الثقب بغطاء خشبي، وطمره بالتراب على أمل المحاول مرة أخرى، حال توفر الموارد المالية الضرورية، في ظل ضيق ذات اليد.
كانت الساعة تشير إلى الساعة الثانية بعد الظهر، من يوم الثلاثاء (1 فبراير)، حين حاول اللحاق بوالده، وهو يرافق سائق جرافة لأداء أجرته بعد الاستعانة به في عملية نقل بعض مواد البناء لاستكمال إصلاح غرفة حديثة بناها رب الأسرة، وأثناء تحرك الجرافة اقتلع الغطاء دون انتباه من السائق، ليسقط ريان في غفلة منه بالثقب، وهو ما أدركته الأسرة ساعات بعد اختفائه، أثناء عملية البحث، لتبدأ عملية الإنقاذ التي امتدت خمسة أيام بلياليها، وتنتهي بتراجيديا ستبقى موشومة في الذاكرة والوجدان.
فصول المأساة وتفاصيلها، دقت ناقوس الخطر في المغرب، حول خطورة هذه الآبار والسدود العشوائية التي تنتشر في عدد من مناطق البلاد بصفة عامة، وإقليم شفشاون على وجه التحديد.
ناقوس الخطر
وفي هذا السياق، قال محمد الربون، الفاعل الجمعوي بإقليم شفشاون، الإقليم وبحكم طبيعته الجبلية؛ فإن الناس يلجأون إلى هذه الآبار لشرب الماء والسقي؛ وخاصة في زراعة القنب الهندي.
وأوضح الربون في حديثه لـ"طنجاوي" أن هذه الأوعية المائية تتوزع بين آبار "الصوندا" وآبار تأخذ شكل سدود صغيرة.
وأكد أن هذه "السدود" توجد في عدة مناطق جبلية من الإقليم، وتتركز في مناطق بعينها كباب برد وبني أحمد، حيث تنتشر زراعة نبتة القنب الهندي.
ونبه إلى أن هذه الآبار والسدود "أثرت على الفرشة المائية في إقليم شفشاون، وتركوا بعض المناطق الساحلية التي تعاني من الجفاف، وهو ما تسبب في هجرة شبه جماعة إلى المدن".
لكنه في المقبل، استدرك الربون حديثه بالتأكيد على أن تقنين إحداث هذه السدود "يستوجب تقديم بديل لساكنة هذه المناطق، حتى يتم توجيه استعمال هذه السدود للزراعات الأخرى كالخضر والحبوب وغيرها" باعتبارها مصدرا من للعيش بالنسبة للساكنة.
واستحضر المتحدث ذاته قيام أب الطفل ريان بحفر البئر على عمق يصل إلى عمق يبلغ 60 مترا ولم يجد ماء، وبالتالي كيف يمكن له أن يعيش في هذا الدوار، مما سيدفعه إلى التفكير في الانتقال للبحث عن عمل إما بمدينة طنجة أو تطوان، بحثا عن قوت يومه.
حيف
وسجل الربون "غياب السدود أو ينابيع كبيرة للمياه، في ظل وجود سد وحيد على مستوى إقليم شفشاون والذي يمد كذلك مدينة تطوان بالماء، في وقت لم يتم تعميم الاستفادة من الربط بتوزيع الماء الصالح للشرب، بالإقليم، وليس هناك أي اهتمام بهذا الجانب".
ورأى أن هذا الوضع "يشكل حيفا في حق العالم القروي بحرمانه من الحق في الاستفادة بالربط بالماء الصالح للشرب، على غرار المدن".
وقال إنه من "العيب ان لا تستفيد باب برد من الربط بالماء الصالح للشرب، رغم توفر المنطقة على موارد مائية مهمة، وخزان مائي بجبل تيزيران (...)، وهو ما ينطبق أيضا على كل من جماعات "أمتار" و"الجبهة"، و"أوزكان" و"بني سميح"، والتي باتت تعاني من جفاف للعيون بعد استنزاف الفرشة المائية بسبب هذه الآبار، خاصة هذه السنة وما تعرفه من شح في التساقطات المطرية".
واعتبر أن فاجعة الطفل ريان "عرت على هذا الواقع، وعلى الدولة العمل على حل هذا المشكل، وتزويد المنطقة بالماء الصالح للشرب".
واقترح في هذا الصدد، "العمل على إنشاء سد صغير على مستوى الجبهة، إلى جانب سد مولاي علي منصور باعتباره سدا كبيرا؛ خاصة وأن هناك فرشة مائية مهمة بمنطقة زمانة، وكذلك بمنطقة شماعلة".
وختم حديثه قائلا "الناس ملت من هذا الواقع، وتطالب ببدائل حقيقية وواقعية؛ لاسيما وأن زراعة الكيف لم تعد تدر مدخولا هزيلا عليهم كفلاحين".
غياب أرقام رسمية
من جهته، أكد محمد بنعبو، الخبير في المناخ والتنمية المستدامة، "غياب أرقام رسمية حول عدد الآبار بالمغرب؛ سواء المرخصة أو غير المرخصة منها، لكن الذي نعرفه هو أن عدد هذه الآبار زاد في السنوات الأخيرة؛ في ظل تفاقم حدة الجفاف، وتراجع منسوب المياه في عدد من السدود، "إلى جانب ربما التغاضي عن عمليات حفر الآبار شمالي المغرب؛ لاسيما في المناطق التي تعرف انتشار زراعة القنب الهندي".
وبَيَّنَ بنعبو في حديثه لـ"طنجاوي" أن هذه المشكلة لها وجهان؛ فـ"هناك من يحفر آبار مجهزة ومحمية لكنها بدون ترخيص، وهناك من يحفرون ثقوبا مائية وعندما لا يجدون الماء يحفرون في أماكن أخرى دون إغلاق تلك الثقوب أو تحصينها اليوم سكان المناطق القروية في الإقليم يعتمدون على إمكاناتهم الذاتية لتوفير الماء، لذلك يحفرون الآبار بدون ترخيص وفي سرية لري عطشهم".
وفي ظل ما تعيشه المملكة من شح في التساقطات المطرية وأزمة مياه، شدد المتحدث ذاته على أن هذه الظرفية "لا يجب أن تكون مبررا لحفر المزيد من الآبار غير المرخصة في غياب المواكبة والإشراف من السلطات المحلية".
شرطة المياه
واعتبر أنه "حان وقت تفعيل دور شرطة المياه، وهو جهاز إداري أحدث بموجب قانون الماء 36.15 الذي دخل حيز التنفيذ عام 2016 لمعاينة المخالفات المرتبطة بالاستغلال العشوائي للمياه الجوفية والسطحية، مدعوة إلى تفعيل هذا الجهاز وتمكينه من الموارد البشرية واللوجيستيكية الضرورية للقيام بواجبه ضرورة التحسيس بخطورة هذه الآبار خصصوا في الأرياف والمناطق القروية، حيث يغيب الوعي بخطورة هذه الآبار على حياة المواطنين".
وأنشأت الحكومة المغربية سنة 2017 شرطة المياه مهمتها مراقبة استعمال واستغلال الملك العمومي المائي حيث يعهد إلى أعوان هذه الشرطة معاينة المخالفات طبقا لمقتضيات قانون الماء، وولوج المنشآت المائية بما فيها الآبار والأثقاب والتجهيزات المتعلقة باستعمال واستغلال الملك العمومي المائي، غير أن عمل هذه الشرطة محدود بالنظر لضعف الإمكانيات المرصودة لتسهيل عملها.
تحسيس وتوعية
وذهب بنعبو إلى أنه مع تأخر التساقطات المطرية، وحالة الترقب في المغرب، بعد تسجيل تراجع منسوب المياه في عدد من السدود بسبب تغير المناخ يجعل التركيز على توعية وتحسيس المواطنين بترشيد استعمال المياه وتقليل الطلب على هذه المادة الحيوية أمرا مُلِحّاً.
وأبرز أن حقينة السدود لم تعد تتعدى 33 في المائة مما جعل مجموعة من القطاعات الوصية تدخل على الخط لمنع مجموعة من الأنشطة المستهلكة للماء، عبر ترشيد غسل السيارات ومنع غسل الطرقات والأزقة وواجهات المحلات بالماء، ومنع سقي الملاعب والمساحات الخضراء العمومية والتوقف عن ملء المسابح الخصوصية والعمومية بواسطة المياه أكثر من مرة واحدة في السنة، مع إلزامية تجهيز هذه المسابح بتقنيات تدوير المياه مما يدعو الى ترشيد استعمال الماء واعتماد مقاربة جديدة تراعي ندرة المياه والتغيرات المناخية.
وتوقف الخبير ذاته عند الحلول التي دعا إليها تقرير النموذج التنموي الجديد؛ ومن بينها تحلية مياه البحر كحل لمواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ مستقبلا خاصة في المدن الساحلية.
كما اقترح معالجة وإعادة استعمال المياه العادمة لتلبية حاجيات المناطق المسقية كخطوة تروم تخفيف الضغط على السدود في الوقت الذي تراجعت فيه حصة المواطن المغربي من الماء تراجعت إلى أقل من 650 مترا مكعبا سنويا، مقابل 2500 عام 1960، ومن المتوقع أن تقل هذه الكمية عن 500 متر مكعب بحلول عام 2030.
حملة وتعليمات
وشنت وزارة الداخلية حملة لتعليماتها بهدم وإغلاق الآبار والحفر المهجورة القريبة من التجمعات السكانية.
وأعطت الوزارة تعليمات صارمة لأعوان السلطة بالقيام جرد شامل لكافة الآبار المهجورة والعشوائية، خصوصا في المناطق القروية للحد من وقوع حوادث مماثلة لفاجعة الطفل ريان.حملة
أكد مدير البحث والتخطيط المائي بوزارة التجهيز والماء، عبد العزيز زروالي، أن وكالات الأحواض المائية ستقوم بجرد شامل للآبار العشوائية، التي قد تشكل خطرا على السلامة العامة، بهدف اتخاذ إجراءات مواكبة، مع إمكانية المتابعة القضائية حتى لا تتكرر فاجعة “الطفل ريان”.
وقال زروالي، في حديث خص به وكالة المغرب العربي للأنباء، إن وزير التجهيز والماء “أعطى تعليماته الصارمة لمدراء وكالات الأحواض المائية للقيام بجرد شامل للآبار العشوائية والتي قد تشكل خطرا على السلامة العامة، وذلك بتنسيق مع السلطات المحلية”، مضيفا أن مصالح الوزارة تنكب حاليا على إعداد دورية مشتركة مع وزارة الداخلية لتفعيل مضمون هذا الجرد والإجراءات المواكبة.
وأوضح أنه على ضوء عملية الجرد التي ستقوم بها شرطة المياه، بتنسيق مع السلطة المحلية، ستقوم وكالات الأحواض المائية، بتوجيه إنذار للمعنيين بالأمر داخل آجال معقولة لإغلاق هذه الآبار أو ترميمها، لتفادي كل خطر يحدق بالعموم وبالحيوانات، وفق الشروط المحددة في قرارات الترخيص.
وفي حال عدم الامتثال لهذه الإجراءات، يضيف المسؤول، ستقوم وكالة الحوض المائي المعنية بعملية الردم على نفقة المخالف مع إمكانية المتابعة القضائية.
وبعد أن أشار إلى أن المصالح المركزية منكبة على تحضير نص تنظيمي يتعلق بتنظيم مهنة الحفر، ذكر مدير التخطيط المائي أن حفر الآبار والأثقاب في المغرب منظم بموجب قانون الماء 15/36 والمرسوم رقم 2.07.96 ، وبالتالي يتعين على كل شخص أراد حفر بئر، أن يضع ملفا يمكن سحبه عبر بوابة وكالة الأحواض المائية، وتتم دراسته وإعلان البحث العمومي إذا كانت الشروط القانونية متوفرة فيه.
مبادرة تشريعية
تشريعيا، وإثر الحادث المأساوي الذي أودى بحياة الطفل ريان، بادر الفريق الاشتراكي أحد مكونات فرق المعارضة بمجلس النواب إلى تقديم مقترح قانون تنظيمي يرمي الى تعديل المادة 100 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات.
وشدد الفريق البرلماني على أن "هذه المعاناة والمأساة يجب أن لا تتكرر، وهو ما يتعين معه تحرك الحكومة والجماعات الترابية، في سياق حملة وطنية، لإغلاق جميع الأثقاب والآبار المهجورة، وغير المستعملة، وكل ما من شأنه أن يعرض سلامة الأشخاص لخطر، خاصة أن الجماعات معنية بدورها، اعتبارا لكون رؤسائها يقومون بمهام الشرطة الإدارية على المستوى المحلي، ومن بين صلاحياتهم التدخل في ميادين الوقاية الصحية والسكينة العمومية وسلامة المرور".
وأشار إلى أن هذا المقترح التشريعي يروم "تمكين الجماعات من آلية قانونية للقيام بهذه التدابير".