أخر الأخبار

خوان غويتسولو يكتب عن: لغز طنجة

هاته المقالة كتبها الكاتب الإسباني الكبير "خوان غويتسولو"، ونشرها بجريدة "إلباييس" سنة 2003، لم يسبق أن تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، وتعميما للفائدة ارتأى موقع "طنجاوي" أن يعيد نشر ترجمتها العربية.

--------------------------------------------------------------

خوان غويتسولو*

أتذكر أني صادفت جملة علقت بذهني في كتاب للمحادثة بالاسبانية و الدارجة المغربية، طبع ونشر منذ أزيد من قرن، وهو"تفسير اللغات" للقنصلي الاسباني فرنسيكوا لويس أورساتي، تقول "بيوت العرب بيوت غامضة"؟  قلت في نفسي، بالنسبة إلى من؟ ليس بطبيعة الحال إلى من يعيشون فيها أو من يعرفون شكلها الداخلي، الأمر الغامض قد يكون بالأحرى هو شبح بالنسبة إلى من يتأملونها دون عبور عتبة أبوابها ؟

كنت قد نسيت كليا أمر النادرة،  إلا عندما رأيت بالصدفة منذ شروعي في الإقامة الصيفية بمدينة البوغاز، أثناء جولاتي بها سلسلة من الملصقات الإعلانية عن معرض بعنوان« Tanger la mystérieuse »  السؤال الذي طرحته على نفسي منذ ثلاثين سنة أعدت صياغته من جديد غير أن جوابي اليوم ليس أقل إقناعا و تحديدا، فالسنوات لا تمضي سدى.

جذب سحر طنجة في القرنين الماضيين النظرة الفضولية لكوكبة من الرسامين والشعراء و السينمائيين القادمين من مختلف أنحاء العالم. تشكل المدينة بطرقها الملتوية، و أسرارها في القصبة و الأسواق  و البازارات والنزل و القيساريات على بعد كيلومترات من أروبا، عالما غريبا نشأت عنه أثار أدبية من ذاك الافتنان، الافتنان الذي مارسته اسبانيا على الرحالة الرومانسيين الفرنسيين والانجليزيين. وعدم فهمهم لذلك، عقب إزالة ادوارد سعيد الغموض عن الاستشراق،  سيكون إجحافا كليا، بحيث تبقى نظرة الأجنبي عنصرا أساسيا في تاريخ الثقافات.   

تفسر النظرة الاستشراقية أن الأجانب يقدرون قيمة ما لا يراه السكان الأصليون،  ويعترفون بها ويقدرونها، فالرتابة تطمس جلاء النظر، فلا نرى الإطار الطبيعي الذي يحيط بنا: إنه يشكل جزء من وجودنا، و الأجنبي يدركه أكثر منا. و عدم معرفتهم بذلك يمكن أن يوقعهم، خاصة عند الكتابة، في أخطاء تأويلية أحيانا مثيرة للضحك،  لذي طرائف بهذا الشأن، إلا إني سأترك هذه التسلية إلى فرصة أفضل.

يرى بعض الكتاب المنتمين إلى التيار الغرائبي، أن رؤية المجتمع تتطلب رؤية من الداخل كمواطن أصلي ومن الخارج كأجنبي، فتقاطع كلا العاملين له حدود رسمها الزمن. و تبقى نقطة التوازن بين تفرد تلك الرؤية وتجديد المعرفة بمكونات و ملامح المجتمع أمرا محتملا وأحيانا صعب المنال.

كيف و متى ينطفئ النظر و نتخلى عن رؤية ما يحيط بنا من الأشياء المعروفة؟ فالوقت قصيرا و يرجع إلى ذات كل فرد. فكثير هم الكتاب و الفنانون المسحورون بطنجة لم يبرحوا أبدا سحرها، بل حولوها إلى صورة نمطية بينما أزال الآخرون عنها الغموض فاضمحلت قوة إيحائها حتى سقطت إلى الأبد.   ذهب الأمريكيون المشهورون، الذين زاروا طنجة منذ نصف قرن باستثناء Paul Bowles  بول بولز إلى مجالات أخرى بحثا عن إلهامات جديدة، فاختزلت الآثار التي تركوها بطنجة في حفنة من الصور، بينما واجه الأسبان الذين هم في سني، و الذين تربوا في مرحلة الحكم الدولي للمدينة واقعا مختلفا، فالمدينة لم تبد لهم سرية و غريبة: بل كانوا يعيشون في مزيج من ثقافات و لغات لا مثيل لها. بعضهم كانوا يعيشون نقيض لصراحة المستشرقين، وانطلاقا من رؤيتهم أعادوا خلق صور لبيوت و مشاهد و أزقة و أشخاص كما لو كانوا قد رأوهم للمرة الأولى و آخرون هاجروا طنجة المغربية التي ذابت بين أيديهم و لجأوا إلى الحنين بشكل نهائي فشكل حلمهم المتكسر لغزاِ إذ كان منفاهم - أود أن أقولوداعا  للفردوس المبتكر و المفقود.

سنوات فيما بعد ربطتني علاقة صداقة مع محمد شكري. لم تفاجئني انتقاداته الجذرية للمستشرقين بمختلف أنواعهم. فالنسبة للكاتب لم يكن الجوع و الهجران العائلي و الأمية لغزا محيرا بل تفاعل  معه وتوصل إلى هزيمته في صراع خسر فيه الكثير من ريشاته و لهذا فالخبز الحافي يبدو لي عملا مثاليا: حياة الأغنياء في فيلات على الجبل الكبير، مركبات سياحية بالخليج أو رأس سبارتيل لا علاقة لهم بحياة البؤس و البطالة وحرفة ألف بهلوان و بهلوان ممن يشكلون فئة عريضة من المجتمع يصفها شكري دون نزعة عاطفية أو شفقة في اتجاه معاكس للمستشرقين. إذ يسرتْ له عشرته اليومية للمغبونين مادة دسمة لصياغة رؤيته.

 إن الأجنبي الذي يجوب اليوم المركز الحضري و أزقة المدينة القديمة يرى أن المعجزة تكمن في أن سحر وأصالة المدينة لا يرضخان أمام هذا التناقض ، فإشراق الجو و التصميمات البيضاء للمدينة العتيقة انطلاقا من الشاطئ إلى القصبة  و البانوراما  العظيمة  لمقهى الحافة، بقوتها الغامرة و الفريدة. وإن كانت نظراتهم تدين أيضا الإهمال و التهميش الذي يطال بعض الجزئيات للمدينة، إلا أن النظرة الشمولية تبقى رائعة : إنها غرابة تلامس الأعجوبة.

أقولها محدثا نفسي: سيكون هذا هو السحر الأصلي لطنجة الذي ينعكس على ملصقات معرض المستشرقين الذي يعرض حاليا.   

*  ترجمه إلى العربية: غزلان الحوزي

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي 'tanjaoui.ma'

تعليقات الزوّار (0)



أضف تعليقك



من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

أخر المستجدات

تابعنا على فيسبوك

النشرة البريدية

توصل بجديدنا عبر البريد الإلكتروني

@