أخر الأخبار

رشيد العفاقي يكتب عن المسارح الأولى بمدينة طنجة 1669م-1913م – الحلقة الأولى: المسرح الإنجليزي

• بقلم : ذ. رشيد العفاقي*

 

أصبح مؤكّدا لدينا أنّ أهل طنجة وضواحيها عرفوا المسرح كتمثيل للقصص والروايات داخل بناية وعلى الرّكح أيام الاحتلال الإنكليزي لمدينة طنجة(1661م-1684م).

والطنجيون اليوم لا يذكرون من مسارح طنجة في غابر أيامها إلا مسرح ثربانطيس(Teatro Cervantes) الذي لاتزال بنايته قائمة إلى وقتنا، وقد شُيِّدَ عام 1913م. ولكن في الواقع أن هذا المسرح ليس إلا حلقة من سلسلة مسارح ظهرت في المدينة منذ زمن بعيد، فما بين المسرح الإنكليزي المُشَيَّد بطنجة في النصف الثاني من القرن 17م إلى مسرح ثربانطيس الذي بُني عام 1913م، عَدَدْنَا سبعة مسارح.

 

1 - المسرح الإنكليزي (Whitehall) 1669م

أنشأ الإنكليز مسرحا بمدينة طنجة، وهو بلا شك أوّل مسرح بالبلاد المغربية، وهُنَا أود أن أشير إلى مقالة فريدة في هذا الموضوع نشرها الأستاذ محمد أهواري في جريدة "طنجة الأدبية"، العدد.18 ، ص.14 بعنوان: "طنجة.. مسرح الدراما الإنجليزية والإسبانية في القرن 17م"، ذكر فيها – نقلا عن الكاتب الإنكليزي جون لوك (John Luke) وغيره- أنّه "في عام 1670 جرى اختتام احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة يوم 26 ديسمبر بعرض مسرحية إنجليزية. ويلاحظ جون ليوك، الذي كان يشغل منصب كاتب عام لحكومة طنجة تحت قيادة اللورد ميدلتن(Lord Middleton)، أنّ الممثلين الإنجليز أدّوا أدوارهم الدرامية على أحسن وجه، وأنهم نجحوا في إثارة الضحك داخل قاعة مفعمة تماما بالجمهور. وكانت هذه القاعة عبارة عن منزل كبير كان يُعرف باسم:الوايت هال (The whitehall)، أو دار المتعة(House of Pleasute)، وكانت المسرحية، التي بدأت حوالي الساعة السادسة وامتدت إلى غاية الثامنة مساء، عبارة عن عرض كوميدي، الهدف منه قضاء الوقت بشكل ترفيهي خلال فترات الشتاء القاسية، ومن جهة أخرى خَلْق أجواء ممتعة للتخفيف من وثيرة الأوضاع المزرية والعصيبة التي كانت تطال رجال حامية الإنجليز العسكرية بطنجة. وقد تمّ استعمال اللسان أو الرصيف البحري (Mole) بالميناء، أو إحدى المستودعات الكبيرة القائمة،على متنه كقاعة للعروض المسرحية. كما قام الإنجليز أيام الحاكم إنشكوين (Inchiquin) باستخدام مستودع قريب من قلعة يورك (York Caslte) كقاعة عروض مسرحية وقد تمكّن الإنجليز من إقامة خشبة ركمية(stage) على مجموعة من الصناديق والعُلب الضّخمة المحشوة بالأسلحة والبارود، وكان الجنود الإنجليز هُم مَنْ أشرف على هذه العملية التي تمثل أولى العتبات السينوغرافية في كل عرض مسرحي، بل وصلوا إلى حد تكوين فرقة مسرحية قادرة على إنجاز وتشخيص عروض درامية، خصوصا الكوميدية كُلّما سمحت لهم الفرصة بذلك، وهذا ما كان يتم بارتياح كبير خلال فترات الهدنة الموقّعة مع المغاربة".

انتهى كلام الأستاذ محمد أهواري، ولا شك في أنّه اجتهد - استنادا إلى المصادر الإنكليزية- في تقديم الملامح الأولى للعروض المسرحية التي قدمها الإنكليز بمدينة طنجة على خشبة المسرح الذي شيدوه في موضع من المدينة،إلّا أنّ الأستاذ محمد أهواريلم يتوفّق في تحديد ذلك الموضع بشكل مضبوط، فقد قال (إن المسرحيات كانت تعرض فيالوايت هال (The whitehall))، ثم قال:(استُعمل الرصيف البحري (Mole) بالميناء، أو إحدى المستودعات الكبيرة القائمة على متنه كقاعة للعروض المسرحية). ثم قال:"استُخدم مستودع قريب من قلعة يورك (York Castle) كقاعة عروض مسرحية، وقد تمكّن الإنجليز من إقامة خشبة على مجموعة من الصناديق والعلب الضخمة المحشوة بالأسلحة والبارود، وكان الجنود الإنجليز هم من أشرف على ذلك".

والسبب في عدم توفيقه في تعيين مكان المسرح هو أنّه خلط بين واقعتين أو ثلاث وقائع تتعلق بالعروض المسرحية المذكورة. فتعيين مكان المسرح في ميناء المدينة غير صحيح وإنْ كان المصدر الذي اعتمده الأستاذ محمد أهواري يشير إلى عرض مسرحي جرى في مكان قريب من الميناء، وهذا المكان ليس مسرحا وإنما هو حصن القورجة الذي كان محاطا بساحة عمومية، ومحاذيا للرصيف البحري الإنكليزي الجديد، وهو الحصن الذي أطلق عليه الإنكليز اسم: قلعة يورك (York Castle)، أمّا المغاربة فصاروا يدعونه منذ ذلك الوقت باسم: دار البارود، لأنه كان مستودعا للأسلحة، وهو الإسم الذي لا يزال جاريا على هذا المكان حتى الآن. وإذا كان الإنكليز قد استعملوا جانبا من الحصن لتمثيل بعض العروض المسرحية حين كان يتعذر عليهم الانتقال إلى المسرح خلال أيام الشتاء القارسة، فإن ذلك لم يستمر، فبناية مسرح الإنكليز بطنجة التي كانت تعرف باسم وايتهال (The whitehall)، كانت تقع خارج أسوار المدينة من الجهة الجنوبية، وقريبةً من سور البلد، في بداية الحيّ الذي يسمى اليوم حومة خُوصفات(Josafat)، ويمكن تحديد موقعه حاليا في موضع قبالة مدرسة الحسن الأول، في الركن الجنوبي الشرقي من مفرق شارع الحسن الأول وشارع ليكاسبي (Legaspi).

وكان هذا المسرح يوجد في قاعة كبيرة، مبنية بناءً إسمنتيا، وبداخلها مسرح مُقام على أعمدة الخشب.وكانت البناية تسمى:(Witehall) أي محلّ التجمّع العمومي، لقد كانت هذه البناية مجمع الإنكليز الساكنين بطنجة وناديهم اليومي الذي يخرجون إليه في المساء للتفرج على المسرحيات ولعب الرياضة بالميدان المجاور للمبنى، وكان ينضم إليهم عدد من المغاربة أيام السِّلْم، وكانتالبناية تشتمل على قاعة كبيرة بها كراسي لجلوس الناس وموائد، ويُقَدَّم فيها الشاي والقهوة والخمرة، وفي قسم من القاعة خشبة كانت تُعرض عليها المسرحيات، والتمثيلياتالغنائية، وكان المسلمون المغاربة من أهل طنجة سكان الضواحي الذين يتمتعون بمكانة معتبرة في المجتمع الإنكليزي الصغير بالمدينة، يُدْعون إلى أن يشاركوا الإنكليز نشاطهم الفني والاجتماعي، ومن الشواهد على ذلك "أنّ العُروض المسرحية التي قدَّمها الإنكليز والإسبان أيام الإحتلال الإنكليزي لطنجة كانت موضوع فُرجة لبعض الشخصيات المغربية الذين كانوا على صِلة متواصلة بالإنكليز، إما لأسباب سياسية أو اقتصادية، وفي مُقدمة هؤلاء المغاربة نجد عائلات جُلُّها من أصل أندلسي كعائلة الشاط ولوقش وراغون، وشخصيات أخرى".

أمّا متى شُيِّد هذا المسرح فقد وجدتُ الباحثة إنايد روت (E.M.G. Routh) تُقَدِّم وصفا لمسرح الويتهال(The whitehall)، وتذكر أن حاكم طنجة جون مدلطون(John Middleton) كان يرتاده مرارا، ولعلّها لم تجد إشارة إلى وجود مسرح بطنجة قبل عهد هذا الحاكم الذي ولي طنجة عام 1667م ودخلها في بداية عام 1669م، واستمر واليا عليها إلى أن توفي بها عام 1674م. مِمّا قد يعني أنّالإنكليز شيّدوا مسرحهم بطنجة في عهد هذا الحاكم. وقد خصّ ونسكلاوسهولر (WenceslausHollar) مسرح (The whitehall)برسم قَلَمي نَشَرَت صورته إنايد روت (E.M.G. Routh) في كتابها الذي أفردته لتاريخ احتلال الإنكليز لمدينة طنجة.

وقد ظلّ هذا المسرح قائما بحي خوصفات بطنجة إلى أن رحل الإنكليز نهائيا عنها عام 1095هـ/1684م، بعد أن دمروا المدينة تقريبا بالكامل، فلمّا دخلها أهلها المسلمون لم يتمكنوا من أن يعيدوا بناء مدينتهم إلا بعد عقود من ذلك التاريخ نظرا لأن التدمير كان شاملا وحادا، فهل فكّر الطنجيون في إنشاء مسرح شبيه بالذي عرفوه أيام الإنكليز؟.

لا تفيدنا النصوص التاريخية التي وقفنا عليها بما يمكن أن نفهم منه أنّ الطنجيين والمغاربة عموما كان لهم اهتمام بإنشاء المسارح أو نوادي العرض التمثيلي في القرنين 17م-18م، كل ما نعلمه هو أنهم أنشأوا القهاوي التي كان يجتمع إليها الرجال في الصباح والمساء، يحتسون الشاي،ويدخنون الكيف،ويترنّمون بضرب الآلات الموسيقية، والتفكه بالحكايات الساخرة والمضحكة، وأما المسرح فلم يكن ظهوره مرة ثانية بطنجة -والمغرب عامة- إلا مع عودة الأجانب إليها واستقرارهم بها.

من المعلوم أنّ الإسبان أنشأوا مسرحا بمدينة تطوان عندما احتلوا هذه المدينة عام 1860م، ولعله كان مسرحا شبيها بالذي كان عند الإنكليز بمدينة طنجة ما بين أعوام (1661م-1684م) إلا أنه كان قائما على أعمدة الخشب مِنْ غَيْرِ بناء إسمنتي، ويظهر أنّ المسرح التطواني تعطّل بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسباني من تطوان عام 1962م. في حين كانت مدينة طنجة قد عرفت استيطانا أوربيا مُهِمّا منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وازداد عدد الأوربيين بشكل ملحوظ بداية من عام 1830م، ومن المؤكّد أن هذه الجالية قد أنشأت بعد هذا العام ناديا لعرض التمثيليات بالمدينة إلا أننا لم نعثر لحد الآن على نص يسجل ظهور هذا الشكل الأول من المسرح بطنجة، غير أن ما كان قد قرره بعض مؤرخي الحركة المسرحية بالمغرب (عبد القادر السميحي، نشاة المسرح والرياضة بالمغرب، ص.21) بأنّ أوّل مسرح ظهر بطنجة كان عام 1897م فهو خطأ بَيِّن. والصحيح أنّ المسرح بمدينة طنجة ظهر قبل التاريخ المُتَقَدِّم بسنوات عديدة.

                                                                                                                                     * ينشر باتفاق مع جمعية طنجة الحضارة

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي 'tanjaoui.ma'

تعليقات الزوّار (0)



أضف تعليقك



من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

أخر المستجدات

تابعنا على فيسبوك

النشرة البريدية

توصل بجديدنا عبر البريد الإلكتروني

@