طنجاوي ـ يوسف الحايك
كانت الطفلة "د" ذات الخمس سنوات في جولة في أحد مساءات ماي الدافئة بمعية جدتها في محيط منزل أسرتها بتطوان.
وفي غفلة، وعلى حين غرة باغث كلب ضال الجدة لينقض على وجه الطفلة الغض، مبقيا على جزء كبير من خدها الأيمن بين أنيابه، مشهد صادم كاد أن ينتهي بمأساة ويكون الأخير، لتبدأ رحلة مريرة من الألم والمعاناة.
وبعبارات مخنوقة، وقلب يعتصره الألم على فلذة كبده، يروي أب الطفلة جوانب مريرة من رحلة العلاج التي بدأت بالمستشفى الإقليمي سانية الرمل بتطوان، ولم تنته في غرف عمليات مصحة خاصة بطنجة، حيث خضعت لعملية جراحية مستعجلة لترميم الوجه، وتضميد الجروح والحد من المضاعفات الخطيرة.
وقال الأب في تصريح لـ"طنجاوي" إن الطفلة رغم التدخل الطبي المستعجل إلا أنها لازالت في حاجة إلى فترة علاج طويلة، بالتزامن مع تلقيها لمواكبة نفسية لتجاوز الأزمة التي تعرضت لها.
وطالب والد الضحية المسؤولين في تطوان، بمحاربة ظاهرة انتشار الكلاب الضالة في الشارع، داعيا الآباء والأمهات إلى توخي الحيطة والحذر في تعامل الأطفال مع الكلاب في الشارع، داعيا إلى إيجاد حلول سريعة لهذه الظاهرة من أجل ضمان سلامة وأمن المواطنين.
ولئن كتب للطفلة "د" عمر جديد، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لضحايا آخرين، فقبلها بأيام قليلة، فقد كلفت عضة كلب آخر رجلا ستينيا حياته بالقصر الكبير، بعدما لم يمهله القدر ووافته المنية بمستشفى القرب بالمدينة، وفق ما أوردته مصادر محلية.
ولا تكاد تمر سنة دون تسجيل حوادث مماثلة بالمغرب، وخاصة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، وهو تعكسه معطيات وزارة الصحة والحماية الاجتماعية؛ إذ رصدت تسجيل المغرب 414 إصابة بالسعار ما بين سنتي 2000 و2020، بمعدل 20 حالة في السنة، من بينها 180 حالة لدى أطفال أقل من 15 سنة.
ورغم أن المغرب خفض عدد حالات الوفيات بالسعار من 34 حالة سنة 1985 إلى تسع حالات سنة 2020، إذ تستحوذ الكلاب على النسبة الأكبر في الإصابة بحالات السعار بنسبة 88 في المائة، بينما تتسبب القطط في نسبة 6 في المائة منها.
ناقوس الخطر !
هذا الوضع يدفع أطباء ومهتمين بالشأن الصحي إلى دق ناقوس الخطر، على غرار الطيب حمضي، الطبيب والباحث في السياسات والنظم الصحية، الذي يؤكد أن جميع الحيوانات التي يتعايش معها الإنسان سواء أكانت أليفة ويتعايش معها في القرية أو المدينة يمكن أن تكون مصدرا للأمراض.
وأوضح حمضي في تصريح لـ"طنجاوي" أن الكلاب حتى وإن كانت غير ضالة ويتم الاعتناء بها في المنازل فإنه لا بد أن تكون مراقبة من طرف طبيب بيطري، وتتلقى التلقيحات الضرورية تفاديا لتسببها في نقل عدوى الأمراض إلى الإنسان، بفعل احتكاكها بحيوانات أخرى أثناء خروجها إلى الشارع.
وأكد حمضي أن داء السعار هو من أخطر الأمراض التي تصيب الكلاب، ويمكن أن تنتقل إلى الإنسان ليس فقط من خلال حوادث العض، ولكن أيضا حتى عبر لعابها، فضلا عن انتقال طفيليات من الجهاز الهضمي لهذه الحيوانات لتصيب الرئة أو الكبد أو الدماغ، مما قد يتسبب بنسبة كبيرة جدا في الوفاة، إلى جانب فطريات تنتج عنها أمراض جلدية أو تلك التي تصيب الشعر أو الأظافر، مشيرا إلى أن علاج الإصابات الناجمة عن مثل هذه الحيوانات يتطلب تلقي تلقيحات علاجية لمدة طويلة.
ودعا إلى العمل على تعقيم الكلاب الضالة وتلقيحها للحد من تفشي الأمراض للأفراد، معتبرا أن قتل الكلاب ليس حلا لمعالجة هذه الظاهرة، بل الحل في نظره هو تلقيح وتعقيم هذه الكلاب، إخصائها للحد من توالدها.
وفي هذا السياق، قدرت جمعية "أدان" للدفاع عن الحيوانات والطبيعة قبل سنوات، عدد الكلاب الضالة في المغرب بحوالي 3 ملايين، فيما يرصد
تقرير رسمي يعود لسنة 2019، أن المكاتب الجماعية لحفظ الصحة تجمع سنويا أزيد من 140 ألف كلب ضال.
مشاهد وحشية !
وتثير طريقة تعامل السلطات المحلية مع ظاهرة انتشار الكلاب الضالة جدلا، وانتقادات واسعة في أوساط الجمعية المشتغلة في المجال البيئي، وحماية الحيوانات، لاسيما في ما يتعلق بإقدام السلطات المحلية بقتل هذه الحيوانات.
وقالت مجموعة الجمعيات المغربية لحماية الحيوانات إنها لاحظت "ممارسات وحشية ولا إنسانية لحجز الحيوانات وتقتيلها في جميع أنحاء البلاد وبشتى الطرق، بما في ذلك تلك التي تم تعقيمها وتطعيمها وترميزها.
واعتبرت الجمعيات في بلاغ صحافي لها، ماي الماضي، أن هذا الوضع "يعطي أيضا صورة متدهورة ومهينة ومشوهة لبلدنا في عيون أولئك الذين يشهدونها داخل المغرب وخارجه"، مطالبة بالوقف الفوري لعمليات حجز حيوانات الشوارع وتقتيلها، في جميع مدن وجهات المملكة.
واستنكرت بشدة "التجاوزات غير المسموح بها لقتل هذه الحيوانات بالجوع والعطش أو التسميم أو الرصاص أو عن طريق الإمساك بها بطريقة مروعة"، مؤكدة على أن عمليات القتل الوحشية هذه غير فعالة تماما في السيطرة على ظاهرة الكلاب.
واستدلت على ذلك بالدراسات التي أجرتها منظمة الصحة العالمية، التي تؤكد بأن أي انخفاض في عدد الكلاب من خلال الوفيات يقابله بسرعة ولادات أكثر ومعدل بقاء أفضل، بعبارة أخرى عندما تتم إزالة الكلاب من منطقة ما يزداد متوسط العمر المتوقع للناجين، لأنهم يتمتعون بوصول أفضل إلى الموارد.
إجراءات واعتمادات مالية
في المقابل، ترى وزارة الداخلية أن الكلاب الضالة تشكل الخزان الرئيسي أو الناقل للعديد من الأمراض الخطيرة كداء السعار.
وباعتبار أن محاربتها تندرج في إطار الاختصاصات المخولة للمجالس الجماعية ورؤسائها في ميدان الوقاية وحفظ الصحة، فقد أكد عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، أن الوزارة تعمل سنويا في إطار مواكبتها للجماعات الترابية على رصد اعتمادات لفائدتها لتعزيز القدرات، حيث بلغت خلال الخمس سنوات الأخيرة ما يناهز 70 مليون، درهم خصصت لاقتناء سيارات ومعدات لجمع ومحاربة الكلاب الضالة والسعار.
وذكر لفتيت في جوابه عن سؤال للنائبة البرلمانية مريم وحساة فريق التقدم والاشتراكية حول "الحلول البديلة من أجل التصدي لظاهرة انتشار الكلاب الضالة"، في مارس الماضي، بأنه تم سنة 2019، إبرام اتفاقية إطار للشراكة والتعاون بين وزارتي الداخلية والصحة والحماية الاجتماعية والمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية والهيئة الوطنية للأطباء البياطرة.
وتهدف الاتفاقية إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين هذه الأطراف من أجل معالجة هذه الظاهرة، باعتماد مقاربة جديدة ترتكز على ضوابط علمية أبانت عن فعاليتها في العديد من الدول، وذلك من خلال إجراء عمليات التعقيم الجراحية لهذه الحيوانات لضمان عدم تكاثرها وتلقيحها ضدا داء السعار، وستمكن هذه المقاربة الجديدة في مراحلها الأولى من ضمان استقرار عدد هذه الحيوانات لينخفض تدريجيا بعد ذلك.
وأكد لفتيت أنه بهدف تفعيل هذه الاتفاقية الإطار والتسريع في تجسيدها على أرض الواقع، تنكب الوزارة حاليا على مواكبة العديد من الجماعات الترابية لإحداث وتجهيز محاجز جماعية أو إقليمية للكلاب والقطط الضالة، حيث بلغت الاعتمادات المرصودة لهذا الغرض بمختلف عمالات وأقاليم المملكة إلى متم شهر نونبر 2022 ما يناهز 38 مليون.
أرقام مقلقة
وينتشر داء السعار في أكثر من 150 بلداً وإقليماً، وهو مرض فيروسي يمكن الوقاية منه باللقاحات. ويتسبب هذا الداء كل عام في وفاة عشرات الآلاف من الأشخاص، ولا سيما في آسيا وأفريقيا، ويشكل الأطفال دون سن الـ15 نسبة 40 في المائة من هذه الوفيات.
وبحسب منظمة الصحة العلمية فإن تكلفة داء الكلب على الصعيد العالمي تقدر بنحو 8,6 مليارات دولار أمريكي سنوياً.
وووفق المنظمة الأممية فإن هذا الداء ينتشر في جميع القارات باستثناء أنتاركتيكا، وتحدث أكثر من 95 في المائة من الوفيات البشرية في آسيا وإفريقيا، بيد أنه نادرا ما يبلغ عن الإصابات بداء الكلب ولذلك تتباين الأعداد المسجلة كثيرا مع الأعباء المقدرة.
ويحصل سنوياً أكثر من 29 مليون شخص في العالم على التطعيم بعد التعرض لعضّ الحيوانات.
ويمنع ذلك سنوياً وفقاً للتقديرات مئات الآلاف من الوفيات الناجمة عن داء الكلب.
وعلى الصعيد العالمي، يقدر العبء الاقتصادي السنوي لداء الكلب المنقول بواسطة الكلاب بنحو 8,6 مليارات دولار أمريكي، بالإضافة إلى صدمات نفسية لا حصر لها يتعرض لها الأفراد والمجتمعات المحلية.